• المـــــدون الحــــــــر
Flag Counter

"سؤال العمل".. الدين والأخلاق والحرية

السبت، 10 نوفمبر 2012
كتاب للمفكر المغربي طه عبد الرحمان                                                                                                                   
نزار الفراوي-الرباط
 
يواصل المفكر المغربي طه عبد الرحمان مشروعه التأصيلي الذي ينصرف إلى مقاربة المفاهيم والقضايا من داخل الحقل التداولي الإسلامي بكتاب حول "سؤال العمل" تضمن بحثا عن الأصول العملية في الفكر والعلم.
ينكب عبد الرحمان على تفكيك كثير من الثنائيات التي استقرت في الثقافة الغربية ووجدت موطئا لها داخل حضن الثقافة الإسلامية. ثنائيات صبت في اتجاه عزل العمل الديني عن مجمل عناصر الفعل الدنيوي، فانفكت عرى الصلة بين الدين والعلم، بين الشرع والعقل، بين العلم والإيمان، بين الدين والأخلاق.
يسائل طه عبد الرحمان هذه المفاهيم في أصولها المعرفية الإنسانية، ويطرحها على حكم النصوص الدينية المؤسسة، ليخلص إلى إعادة وضع العمل الديني في قلب الانشغالات المادية والفكرية للإنسان المسلم المعاصر.
فالفكرة الناظمة للكتاب -الصادر عن المركز الثقافي العربي في 325 صفحة من القطع المتوسط- هي واجب توجيه جميع الأعمال نحو الخالق، حتى تتحقق للإنسان صفة المخلوقية التي لا تنفك عنه مطلقا في كل عمل ينجزه. ذلك أن العبودية هي تجلي الإنسان بالعمل الذي لا ينقطع. والأصل في هذا العمل أنه يشمل كل الأفعال، عبادات كانت أو معاملات، جامعا فيها بين الوفاء بالمقتضيات الشرعية والأخذ بالمعاني الروحية.
ومن ثم تتجلى ضرورة تجديد الصلة بعالم الناس والارتقاء بها إلى أفق أوسع في نظر المؤلف ،"فبدل أن يسود في هذا العالم التعامل الضيق الذي يقوم على تنازع المصالح وابتغاء الكسب، يسود فيه التعامل الواسع الذي يقوم على التنافس في الخيرات وابتغاء الفضل". وهو عالم يناقض بالتالي زمن العلمانية لأنه "كله مصروف للعمل الدنيوي".
الافتتان بالمنقول اليوناني جعل فلاسفة المسلمين يغفلون عن منزلة القلب ويغيبونه، في حين أنه ورد في القرآن بمعنى الفاعلية الإدراكية
جدل المفاهيم
يجد الجدل المزمن في الحقل الثقافي العربي الإسلامي حول علاقة الدين ببعض المفاهيم من قبيل العقل والعلم وحقوق الإنسان والحرية صدى قويا له في كتاب "سؤال العمل". ويحذر طه عبد الرحمان من السقوط في وثنية جديدة باسم العقلانية. إنه يدعو إلى تجاوز ورطة تأليه العقل، الذي يؤكد المفكر على طابعه العرضي لا الجوهري، إذ هو "فعل إدراكي يأتيه الإنسان كما يأتي فعل البصر والسمع، ويصدق عليهما ما يصدق عليه من الحدوث في الزمن والتجدد والتبدل، إيجابا أو سلبا".

يتقفى الكاتب مفهوم العقل في الإسلام ليلاحظ أنه أتى في القرآن مترادفا مع الفقه، بحيث إنه لو انتبه علماء المسلمين إلى هذا الترادف لاهتدوا إلى حقائق أساسية تغير المسارين اللذين اتخذهما المفهومان في تاريخ الثقافة الإسلامية، "فلا ينحصر عمل العقل في ضبط ظاهر الأشياء، ولا ينحصر عمل الفقه في ضبط ظاهر الأفعال وحده كما حصل في هذه الثقافة، بل لتمكنوا من تفادي التعارض الذي أقيم بينهما، حتى صار العقل يغلب على معناه الاختصاص بأمور الدنيا، والفقه يغلب على معناه الاختصاص بأمور الأخرى".
لا مجال للفصل بين المادي والروحي في السلوك الإنساني حسب المؤلف، الذي يرى أن الافتتان بالمنقول اليوناني جعل فلاسفة المسلمين يغفلون عن منزلة القلب ويغيبونه، في حين أنه ورد في القرآن بمعنى الفاعلية الإدراكية، ليخلص إلى أن "العقل هو عبارة عن إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء".
هذا الفصل بين العقل والقلب أفضى إلى انصراف الفقه إلى تقنين ظواهر الأفعال وإهمال القيم الخلقية في الأحكام الفقهية، مما أدى إلى قصر الأخلاق على جزء محدود من أفعال المكلفين واعتبار الأخلاق من المقاصد الكمالية، وفي هذا "سوء فهم لحقيقة الدين، لأن الاعتبار الأول في الدين يكون، لا للحاجات البدنية والمصالح الدنيوية التي أولاها الفقه عناية خاصة، وإنما للمعاني الروحية والمطالع الأخروية التي تغافلوا عنها". ومن هنا إذن انتقاد الفصل المتعسف بين العقل النظري والعقل العملي.
أخلاقية الإنسان هي ما يميزه عن باقي الكائنات وليس العقلانية. الإنسان هو وحده المخلوق الذي ينشد الكمال من خلال استحضار القيم المثلى في نفسه، وهو ما ليس بمقدور الحيوان فعله. من هذا المنطلق ينتقد المؤلف هدم الأساس القيمي لأفعال العقل في الثقافة الغربية، وكذا لدى بعض دعاة الإصلاح المسلمين "ظنا منهم أن استعادة الأمة عزها الوجودي ودورها الرسالي يقوم في البدار إلى بناء المصانع وتعمير البلاد، والحق أن الأمة أحوج إلى البدء بتجديد الإنسان منها إلى الاندفاع في تشييد العمران".
يوضح طه عبد الرحمان في هذا السياق أن الإسلام بلغ أعلى رتبة في استيفاء معايير التخليق من خلال تحقيق التطابق بين التدين والتخلق، والارتقاء بالعمل الدنيوي إلى منزلة العمل الديني
العقل والشرع
ويمضي طه عبد الرحمان مستغربا كيف أن البعد الأخلاقي لم ينل الحظ اللائق من جهود التأصيل الفقهي والتأويل التشريعي مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حصر رسالته في حديثه "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وسبب ذلك أن الفقهاء أنزلوا الأخلاق رتبة المصالح الكمالية والحق أن "مكارم الأخلاق تشكل كل المصالح التي تضمنتها الشريعة المطهرة"، كما يقول المؤلف.

وفي علاقة العقل بالشرع، يسطر الفيلسوف المغربي ثلاث مراتب للعقل تبعا لمدى اجتهاده في موافقة الشرع: أولا العقل المجرد هو العقل المنقطع عن العمل الشرعي، بحيث لا يحمل شيئا من آثاره ولا يستخرج منه معقولاته، ولا يرى في الأشياء إلا ظواهر لا باطن دونها. ثانيا العقل المسدد، وهو العقل الذي دخل صاحبه في العمل الشرعي وتزود بنصيب منه يكفي لأن يتبين العمل الصالح من غيره، فهو لا يرى الأشياء إلا في صلتها بالخالق. ثم العقل المؤيد وهو العقل الذي تغلغل صاحبه في العمل الشرعي حتى تلبس به باطنه، فهو "يشهد الخالق في خلقه قبل أن يشهد المخلوق في نفسه".
عن ثنائية العقل والإيمان، يذكر طه عبد الرحمان بأن النص الديني موجه إلى بالغين عاقلين، فلا يتصور أن يقضي هذا النص بشرط العقل ولا يوفي به على أفضل وجه، فضلا عن دعوته إلى فهم أدلته، التي يدرك بعضها بالعقل المجرد وبعضها يتجاوز حدود هذا العقل. الإيمان كاعتقاد لا دليل عليه هو الإيمان المقلد، أما الإيمان المجدد، حسب المؤلف، فهو اعتقاد مبني على "أدلة مستمدة لا من النظر المجرد الذي عرفوه وإنما من النظر غير المجرد أو قل الموسع الذي لم يعرفوه".
أما العقل الموسع فهو فعل عقلي قلبي يؤثر في الطبيعة الإدراكية للأفعال فيجعلها ترتقي من إدراك ظاهر الأشياء إلى إدراك باطنها، من خلال قوتين واحدة حسية خارجية والثانية داخلية معنوية.
وكما لا يخرج العقل عن رقعة الإيمان، فإنه لا يمكن التأسيس لمنظومة أخلاقية خارج نطاق الدين، وفق الكتاب الذي يكشف إخفاق المحاولات العالمية لتأسيس ميثاق أخلاقيات على أساس غير ديني. ويوضح طه عبد الرحمان في هذا السياق أن الإسلام بلغ أعلى رتبة في استيفاء معايير التخليق من خلال تحقيق التطابق بين التدين والتخلق والارتقاء بالعمل الدنيوي إلى منزلة العمل الديني.
ويطابق في هذا الصدد بين مقاصد الإسلام وأهداف الأخلاقيات العالمية بحيث يصبح حفظ الدين مطابقا للالتزام بثقافة الإيمان واحترام الدين، وحفظ النفس مطابقا للالتزام بثقافة المسالمة واحترام الحياة، وحفظ العقل مطابقا للالتزام بثقافة التسامح والصدق في الحياة، وحفظ المال منسجما مع ثقافة التضامن والنظام الاقتصادي العادل، ثم حفظ النسل مطابقا لثقافة المساواة في الحقوق والشراكة بين الجنسين.
الإخفاق ذاته كان مآل بناء الحرية على أساس عقائد دنيوية، فكانت الحريات بمختلف صيغها الجمهورية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية منقوصة تبدل عبوديات بأخرى، عبودية للسوق أو القانون أو الرأي العام أو الحزب القائد... في حين أن الحرية تقتضي "التعبد للحق وعدم العبودية للخلق"، وسبيلها العمل "التزكوي" الذي يتوسل بأسباب التعبد للحق من أجل التخلص من العبودية للخلق.
المصدر:الجزيرة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
المـــــدون الحــــــــر © 2012| تعريب وتطوير : سما بلوجر